مقدمة كتاب (حديث القمر) للأديب مصطفى صادق الرافعي
اليوم نحن مع أديب رائع هو مصطفى صادق الرافعي، الذي وضع أول سلسلة عاطفية وجدانية في الأدب العربي بلغت أربعة من أشهر كتبه كان أولها كتاب (حديث القمر)، وكان موضوعها كلها الحب.
يقول الأديب الرائع:
أيها القمر الآن وقد أظلم الليل وبدأت النجوم تنضخ وجه الطبيعة التي أَعْيَت من طُول ما انبعثت في النهار برشاش من النور النديِّ يتحدَّر قطراتٍ دقيقةً منتشرةً كأنها أنفاسٌ تتثاءب بها الأمواج المستيقظة في بحر النسيان الذي تجري فيه السفن الكبيرة من قلوب عُشَّاقٍ مهجورين برَّحت بهم الآلام، والزوارق الصغيرة من قلوب أطفالٍ مساكين تنتزعها منهم الأحلام، تلك تحمل إلى الغيب تعبًا وترحًا، وهذه لعبًا وفرحًا، والغيب كسجلِ أسماء الموتى تختلف فيه الألقاب، وتتباين الأحساب والأنساب، وتتنافر معاني الشَيب من معاني الشباب، وهو يَعجب من الذين يُسمُّونه بغير اسمه ولا يعلمون أنَّه كتابٌ في تاريخ عصرٍ من عصور التراب.
... والآن وقد بدت الطبيعة تتنهَّد كأنها تُنفِّس بعض أكدارها، أو هي تُملي في الكتاب الأسود أخبار نهارها، وبدأ قلبي يتنفَّس معها كأنه ليس منها قطعة صُغرى، بل هي طبيعة أُخرى، ولله ما أكبر قلبًا يسعُ الحبَّ من قُبلةِ اللقاء إلى ذكراها، ومن حياة الصبيِّ الأولى إلى ما يكون من الجنَّة أو النار في أُخراها، إنَّ هذا لهو القلب الذي ترى فيه الطبيعة كتاب دينها المُقدَّس، فإذا لحق العاشقُ الذي يحمله بربِّه تناولته وهي جاثيةٌ كأنها في صلاة الحُزن، ثم قلَّبته متلهِّفة، ثم قلَّبته متخشِّعةً، ثم أودعته في مكتبة الأبد؛ لأنه تاريخُ قلبٍ آخر، بل جزء من الموسوعات الكُبرى التي يُدَوِّن فيها الدهر تاريخَ النفس الإنسانية على ترتيبٍ بعينهِ تعلَّم الناس منه أن يبدؤوا لغاتهم جميعًا بحرف "الألف"؛ لا لأنه من أقصى الحلق؛ بل لأنه من أقصى القلب، بل لأنه من أقصى التاريخ، بل لأنه أولُ اسم "آدم"، ذلك العَلَم الأول في تاريخ الحب.
والآن وقد رقَّت صفحة السماء رِقة المنديل، أبلَتْه قُبَلُ العاشق في بِعادٍ طويل، أو هجرٍ غير جميل، وتلألأت النجوم كالابتسام الحائر على شفَتي الحسناءِ البخيلةِ حَيْرةَ القطرة من الندى إذ تلمع في نور الضحى بين ورقتين من الورد، وأقبل الفضاء يشرق من أحد جوانبه كالقلب الحزين حين ينبع فيه الأمل، ومرَّت النسماتُ بليلة كأنها قِطعٌ رقيقةٌ تناثرت في الهواء من غمامةٍ ممزَّقَةٍ، وأقبلت كلُّ نفْسٍ شجيَّةٍ تُرسلُ آمالها إلى نفسٍ أخرى كأن الآمال بينهما أحلام اليقظة، ونظرَ الحزينُ في نفسه، والعاشق في قلبه، ونام قومٌ قد خلت جيوبهم فليس لهم نُفوس ولا قلوب، ولبس الكون تاجَه العظيم فأشرق عليه القمر...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق