السبت، 29 نوفمبر 2014

مقدمة كتاب (إبراهيم: أبو الأنبياء) لعباس محمود العقاد
جزء أول
خليل الرحمن وخليل الإنسان
في العالم اليوم أكثر من ألف مليون إنسان يدينون بالموسوية والمسيحية والإسلام، وهي الأديان التي جاء بها موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وهم الأنبياء الثلاثة الكبار الذين ينتمون جميعًا إلى الخليل إبراهيم لا جرم  يُسمى خليل الرحمن.
ولا جرم تتجمع الجهود كلها للبحث عن تاريخه المجهول في أغوار الأرض، فإن علم الأحافير لم ينحصر في البحث عن تاريخ أحد قط كما انحصر في البحث عن تاريخ أبي الأنبياء، وما تجردت البعوث إلى العراق وفلسطين ومصر لسؤال الأرض عن مكنون من أسرارها، كذلك السر المكنون الذي ينطوي على أعمق أسرار الروح والضمير.
قال منقب من أولئك المنقبين الذين عُرفوا باسم الحفريين: إن الناس قد بدءوا بالحفر في الآثار طلبًا للذهب ولقايا الحلي والجوهر، ثم عرف الناس شيئًا أنفس من تلك المعادن يبحثون عنه ويتهافتون على استخراجه وتحصيله؛ وهو التاريخ المقدس، أو تاريخ المعاني العليا التي ترتفع به إلى السماء، ولها مستودع في جوف الرغام.
وكل شيء يغليه الإنسان يحفزه إلى ذلك السر الذي تقسمته الأرض والسماء.
فإلى جانب البحث عن أصول العقائد يبحث المنقبون في تاريخ الخليل عن فتوح لا نظير لها في تاريخ الإنسان.
وقد أكثر المؤرخون من القول في أنباء الفتوح التي غيرت مجرى التاريخ، أو غيرت علاقة الإنسان كله بالعالم الذي يحيط به ويحتويه.
ولكن المؤرخين لا يستطيعون أن يذكروا فتحًا من تلك الفتوح أعظم عملًا، وأبقى أثرًا في تاريخ الإنسان، من تلك الفتوح التي اقترنت بدعوة الخليل.
إن دعوة الخليل قد اقترنت بالتوحيد، واقترنت بميزان العدل الإلهي، واقترنت بإعلاء العبادة إلى ما فوق الطبيعة والجثمان.
وهذه هي الفتوح التي لا نظير لها فيما تحدث عنه المؤرخون من فتوح الحياة الإنسانية منذ أقدم عصورها إلى العصر الحديث.
لا نظير لها فيما فتحه الإنسان من هذا العالم حين سخَّر النار، أو سخر الحيوان، أو سخر الكهرباء، أو سخر الذرة على جلالة فعلها وضآلة قدرها، وهي أقوى المسخرات فيما عرفه إلى اليوم.
هذه فتوح فيما يملكه الإنسان، أما تلك الفتوح ففيها ملاك الإنسان كله، فيما يعلمه وما لا يعلمه، وفيما يبديه وفيما يخفيه.
تلك فتوح غيرت عالم الإنسان الظاهر وعالمه الباطن، وليس قصارى الأمر فيها أنها عبادة جديدة أفضل من عبادات سبقتها، وإن كانت العبادة الفضلى غُنْمًا يُغليه من يَقتنيه، ويفديه بكل ما يعيه وما لا يعيه.
كلا بل هي عبادة فُضلى، وفكر فاضل، ونظر جديد إلى الكون وإلى الإنسان وبني نوعه في وحدته وفي اجتماعه.
وهي فُتُوح تُصحح مقاييس الفكر وتُبدل علاقة الإنسان بنفسه وبدنياه، وتُحسب من أجل ذلك في سجلات العالم، ورياضات الخلق، وقوانين الاجتماع.
إن حقائق الكون الكبرى لن تنكشف لعقل ينظر إلى الكون كأنه أشتات مفرقة بين الأرباب، يتسلط عليها هذا بإرادة، ويتسلط عليها غيره بإرادة تُنقضها وتمضي بها إلى وجهة غير وجهتها، فلم يكن التوحيد عبادة أفضل من عبادات الشرك وكفى؛ بل هو علم أصح، ونظر أصوب، ومقياس لقوانين الطبيعة أدق وأوفى، ومن هنا صدرت كل فكرة عظيمة عن الكون من عقل فيلسوف مؤمن بالوحدانية، وإن لم تبلغه دعوة الأنبياء.
أما ميزان العدل الإلهي فهو الذي أقام المساواة بين الناس على دعامتها الراسخة، وكل ما عداها من دعامة فإنما هي دعائم القوة ممن يقدر عليها، سواء اقتدر عليها بسطوته الباطشة، أو بتأليب الطوائف والجماعات، وما كان للعدل بين الناس من سبيل وهم يقيسون بعضهم إلى بعض، ويطلبون المساواة بين أقوى الأقوياء منهم وأضعف الضعفاء.
فإذا ارتفع الميزان إلى اليد الإلهية، فهذا القَوِي مهما يبلغ من القوة، وذلك الضعيف مهما يبلغ من الضعف نِدَّان متساويان، ومخلوقان أمام خالق واحد، ما زاد من قوة أحدهما فهو من عطاء ذلك الخالق، وما نقص من قوة الآخر فهو من قضائه، ومن دواعي رحمته وبلائه، وإليه المرجع في حسابه أو جزائه، فلا يدخله أحد في حساب غير ذلك
الحساب، ولا يعرضه أحد على ميزان غير ذلك الميزان.
وقد ارتفع الإنسان كله حين رفع عبادته من الطبيعة إلى ما فوق الطبيعة، وحين أصبحت حاجته إلى المعبود شيئًا أرفع من مطالب الأديان، وضرورات الغرائز والطِباع.
كان أقل من الطبيعة فأصبح أعظم منها.
كان مسلوب الحيلة أمامها، فأصبح له من فوقها مرجع لا يعنيه غضبها ورضاها.
ولم يكن له إلا أن يخضع لها أو يحتال عليها.
فأصبح له أن يواجهها ويقف أمامها، بل على أكتافها.
أصبح له كيانه الأدبي في وجهها.
يتبع الجزء الثاني