الجمعة، 12 ديسمبر 2014


الجزء الثاني من  مقدمة كتاب (إبراهيم: أبو الأنبياء) لعباس محمود العقاد
خليل الرحمن وخليل الإنسان
وليس الفتح المبين في هذا أنه يرى فيها ما يحسن وما لا يحسن، وما يرضاه ضميره وما لا يرضاه.
وإن الواقع الذي لا مرية فيه أن الإنسان قد ملك الذرة الصغرى، فملك من الطبيعة قوتها الكبرى، وأنه خليق بهذه القوة أن يضلَّ ويطغى، ولكن اليقين الحق أنه لن يكبح ذلك الطغيان من نفسه بقوة الطبيعة صُغراها وكُبراها، وإنما يكبحه إذا قُدِّر له أن يكبحه بسلطان من ذلك الفتح المبين، ما بقي له وما زاد عليه بعد آلاف السنين.
هذه الفتوح قد عُرفت جميعًا قبل عصر الخليل، ولكنها لم تقترن بدعوة قط في عالم النبوة قبل دعوته عليه السلام.
وهذا هو الفارق المهم في العواقب وفي مراحل التاريخ.
أو هو الفارق بين دعوة النبي وبين غيرها من الدعوات.
فالتوحيد لم يكن مجهولًا قبل عصر إبراهيم، وكذلك ميزان العدل الإلهي، وكذلك عبادة »الحق» فوق الطبيعة وفوق مطالب الأبدان.
كان المصريون الأقدمون يؤمنون بالإله الواحد، وكان من معتقداتهم أن الروح في العالم الآخر ميزانًا يقدر لها الحسنات والسيئات، وكانت كلمة الله هي القوة التي تفعل ما تُريد.
ولكنها لم تكن دعوة نبوة ورسالة، ولعلها جاءت في زمن لم تتهيأ فيه النفوس للعلم بالوحدانية، ونبذ الشرك، وتعدد الأرباب.
وكانت في جملتها دعوة كهان يسترون ما يعلمون، ولا يبوحون للناس بأسرار الديانة إلا بمقدار.
وكان ميزان السماء يزن لكل روح حسناتها وسيئاتها، ويحسب الملوك من الأرباب الذين يتصرفون في الأرواح خلال الحياة وبعد الممات.
ولما جهر  «إخناتون «بدعوة التوحيد والمساواة بين عباد الله، صدرت دعوته من قصر الدولة كأنها مراسيم الملك وقوانين الحكومة، ولم تلبث أن بطلت في قصر الدولة نفسه بمراسيم من قبيل تلك المراسيم، وقوانين يطيعها الناس أشد من طاعتهم لتلك القوانين؛ لأنها تستعين بدهاء الكهان وسلطان العُرف والعادة.
وكان أناس من الحكماء يعرفون الله كأنهم يعرفون حلٍّا مقنعًا لمسألة الوجود، أو كأنهم يعرفونه خالقًا للكون، ولا يزيدون.
ومما لا ريب فيه أن عقيدة التوحيد قد سرت من مصر في صورة من الصور إلى بلاد المشرق، ومنها بلاد البحر الأبيض ووادي النهرين.
ومما لا ريب فيه أنها كانت سر الخاصة وذوي الرسالة في المحاريب والقصور، وأن تعدد الأرباب قد سرى منها كذلك إلى الشعوب سريان العُرف والمحاكاة.
أما الإله الواحد الذي اقترن بدعوة إبراهيم، فلم يكن حل مسألة، ولم يكن سر أحبار  وحكماء، ولم يكن خالق الكون والناس ولا مزيد.
بل كان خالق الكون والناس، وحاكم الكون والناس، وكان منه الأمر والنهي، وإليه المرجع والمآب.
كانت عبادته «مسألة حية» تمتزج بسرائر النفس، وتنبعث منها فضائل الخير، ولا تنزوي عنها زاوية في الكون ولا في ضمير الإنسان.
كانت دعوته صرخة تُسمع وتتجاوب بها الآفاق، ولم تكن لغزًا يخفى وتتحاجى به العقول.
كانت صحبة البيت والطريق، وصحبة اليقظة والمنام، وصحبة العزلة والجماعة، وصحبة الحياة قبل الميلاد وبعد الموت، ولم تزل حتى أصبحت وهي صحبة الخلود الذي لا يعرف الفناء.
ولم تصبح كذلك قبل رسالة النبوة حين انبعث بها النبي أبو الأنبياء حين بشر بها إبراهيم.
وما كان لنبوة واحدة أن تؤدي رسالة التوحيد وتفرغ منها في عُمْرِ رجل أو عُمْرِ جيل وإنما هي نبوة بعدها نبوات.
ولو كانت دون ذلك خطرًا لكفى أن تقوم بها دعوة واحدة، وأن تتكفل لها ببقائها، ولكان بها الغنى عن التعقيب والتذكير.
ولكنها على خطرها هذا لا تتم في رسالة واحدة، ولا تستغني عن مرتقى بعد مرتقى، ثم عن قرار بعد قرار.
وعاش الخليل ما عاش والتوحيد في قومه مشوب بالشرك والضلال، وفارق الدنيا والخلفاء من بعده يتقدمون وينكسون، ويستقيمون وينحرفون، ولم يَنْقَضِ من بعده عهد إلا وهو ينبئ الناس أنها نبوة تتلوها نبوات، وأنها أمانة موروثة في أعقابه لا تنقطع في جيل، ولا بد لها من ورثة أبرار ومن شكَّ في ذلك فإنما هو شاكٌّ في بداهة العقل،  وضرورة الزمن، وحكم التاريخ، فوق الشك في الكتب والأنبياء.
وإنما المستحيل في العقول أن تنفرد رسالة إبراهيم في أعقابه، فلا تأتي بعدها رسالة في أولئك الأعقاب.
ولا دليل في العقول على نسب الأعقاب أقرب من هذا الدليل، ولا دليل على المرسلين منهم أثبت منه عند النظر القويم.
فلو مضت رسالة إبراهيم بغير رسالة بعدها لكان هذا هو العجب المردود، ولو قام بتلك الرسالات التالية فرعٌ من غير أصله، ونبتٌ من غير معدنه؛ لكان هذا أعجب وأولى بالرَّد والارتياب.
ولا يعقل العقل إلا أنه نبي أبو الأنبياء، كما كان وكما ينبغي لا محالة أن يكون وكم بين توحيد الأعقاب وبيت التوحيد كما تلقاه عصر الخليل من بون بعيد! إنه لأبعد من مسافة الزمن بينهما، وليست مسافة الزمن بينهما بالشوط القريب ولكن الذي يبدأ لا بد أن يبدأ، ولا بد أن يبدأ من خطوته الأولى ولا يبدأ من منتهاه.
وإلى ذلك المبدأ يرجع اليوم ألف مليون من بني الإنسان أو يزيدون، لا أول لهم في قداسة الحياة غير ذلك الأول، ولا رائد لهم في موازين العدل والصلاح قبل ذلك الرائد ومَن خلَف على أعقابه من الرُّوَّاد.
ومن ذلك المبدأ شخص ذلك الركب الحاشد في طريقه إلى لله، وتقدم من اسم الله ذي العرش إلى اسم الله الرحمن الرحيم.
إنه -لا جرم- خليل الرحمن وإنه -لا جرم- خليل الإنسان.
وسيرته في الصفحات التالية هي سيرة الخليلين، على هدي الأسلاف، وعلى هدي الأعقاب.
وعلى هدي الأسلاف والأعقاب ينبغي أن تكتب كل دعوة عامة، وأن تُوصف كل بعثة نبوية خُوطب بها الناس على اختلاف المدارك والمعارف والطباع.
فنحن لا نتصور الدعوة في صورتها الحقيقية الشاملة إلا إذا عرفنا صورتها في نفوس المخاطبين بها، سواء منهم من فَهم أو من لم يفهم، ومن أحسن الاعتقاد أو أساء.
وعلى قدر العلم بالضلالة نفهم عمل الهداية التي أزالتها، أو عالجت أن تزيلها بما كان لها من الجهد والوسيلة.
فلا غنى في دراسة تاريخ الخليل عن الإحاطة بما ورد عنه وقيل في شتى المصادر في مختلف البيئات والعصور.
وينفعنا الخطأ هنا كما ينفعنا الصواب.
بل الخطأ هنا من الصواب أنفع؛ لأن رسالة النبي قائمة على إزالة خطأ وتبيين الضلالة فيه، فعلى قدر ما نعلمه من جوانب الخطأ وخباياه، نعلم القوة التي تتصدى له، وتَصلُح لعلاجه والغلبة عليه.
ولهذا نود أن نلم في كتابة هذه السيرة بكل طرف، وأن نذهب فيها إلى كل وجهة، ولا نقتصر على المعتمد منها في مذهب واحد أو نحلة واحدة، سواء عرضنا لها من ناحية الأديان، أو من ناحية المباحث والآراء التي رددتها التواريخ، وكشفت عنها البعوث الحفرية من القرن الثامن عشر إلى الآن.
إن منهج البحث تمليه علينا طبيعة البحث نفسه، في الزمن الذي نكتبه فيه، ونحن ندرس سيرة الخليل كما وضحت لنا منذ فاتحة القرن العشرين. ولقد أثار القرن العشرون في هذه السيرة مشكلات لم يعرفها الأقدمون، وأتى فيها بمعلومات من بطون الحفائر وخفايا الآثار لم تكن في حساب أحد ممَّن عرضوا لهذه السيرة قبل مائة سنة.
من هذه المشكلات التي أثارها القرن العشرون: وجود إبراهيم في التاريخ؛ هل هو شخصية تاريخية، أو هو صورة من صور الخيال تجمعت حولها متفرقات العقائد من هنا وهناك؟
ومن المشكلات التي أثارها هذا القرن: علاقة إبراهيم بمكة وبيت الله الحرام؛ هل ذهب إبراهيم إلى مكة؟ وهل كانت له علاقة ببيت الله الحرام فيها، أو تلك علاقة لم تُفهم على سند صحيح من الواقع، ولم تنْجلِ الدراسات العصرية عما يؤيدها بالدليل المقبول؟
ونحن نكتب هذه السيرة وأمامنا هذه المشكلات من مصادرها القوية، وأمامنا كذلك أسبابها وأسباب الإعراض عنها والرد عليها.


يتبع الجزء الثالث.